كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقول: ألبرت ماكومب ونشستر (متخصص في علم الأحياء دكتوراه من جامعة تكساس.
أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور...) في مقال: العلوم تدعم إيماني بالله من الكتاب نفسه:
... وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء. وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة. وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون.
انظر إلى نبات برسيم ضئيل. وقد نما على أحد جوانب الطريق. فهل تستطيع أن تجد له نظيرًا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار، بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية؛ ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم- وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية.
فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلق الحياة، وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل. مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر.. إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء، وأكثرها إظهارًا لقدرة الله.. إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر المكبر. ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات: كل عرق، وكل شعيرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة، يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغًا كبيرًا، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات.. تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات (ناقلات الوراثة).
وفي هذا القدر كفاية لنعود إلى الجمال المشرق في سياق القرآن: {ذلكم الله}..
مبدع هذه المعجزة المتكررة المغيبة السر.. هو الله.. وهو ربكم الذي يستحق أن تدينوا له وحده.. بالعبودية والخضوع والاتباع.
{فأنى تؤفكون}..
فكيف تصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والقلوب والعيون!
إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيرًا في القرآن الكريم- كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء- في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية، وآثارها الدالة على وحدة الخالق، لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود، الذي يدين له العباد؛ بالاعتقاد في ألوهيته وحده، والطاعة لربوبيته وحده، والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية، والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله، والدينونة لشريعته كذلك وحدها..
وهذه الدلائل لا تذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية أو نظريات فلسفية! إن هذا الدين أكثر جدية من أن ينفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية. إنما يهدف إلى تقويم تصور البشر- بإعطائهم العقيدة الصحيحة- لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة.
وذلك لا يكون أبدًا إلا بردهم إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من عبادة العباد.
وإلا أن تكون الدينونة في الحياة الدنيا، وفي شئون الحياة اليومية لله وحده، وإلا أن يخرج الناس من سلطان المتسلطين، الذين يدعون حق الألوهية، فيزاولون الحاكمية في حياة البشر، ويصبحون آلهة زائفة وأربابًا كثيرة؛ فتفسد الحياة، حين يستعبد الناس فيها لغير الله!
ومن هنا نرى التعقيب على معجزة الحياة:
{ذلكم الله فأنى تؤفكون}..
ذلكم الله الذي يستحق الربوبية فيكم.. والرب هو المربي والموجه والسيد والحاكم..
ومن ثم يجب ألا يكون الرب إلا الله..
{فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم}..
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضًا، وهو الذي جعل الليل للسكون، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما.. مقدرًا ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء.
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة. وانبثاق النور في تلك الحركة، كانبثاق البرعم في هذه الحركة.. وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك..
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى.. إن الإصباح والإمساء، والحركة والسكون، في هذا الكون- أو في هذه الأرض- ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة.
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس؛ وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض؛ وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة.. هي تقديرات من العزيز ذي السلطان القادر العليم ذي العلم الشامل.. ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو، ولما انبثق النبت والشجر، من الحب والنوى..
إنه كون مقدر بحساب دقيق. ومقدر فيه حساب الحياة، ودرجة هذه الحياة، ونوع هذه الحياة.. كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه- وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب..
والذين يقولون: إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون. وأن الكون لا يحفلها. بل يبدو أنه يعاديها. وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله. بل يقول بعضهم: إن هذه الضآلة توحي بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة!... إلى آخر ذلك اللغو، الذي يسمونه أحيانًا علمًا! ويسمونه أحيانا فلسفة! وهو لا يستأهل حتى مناقشته!
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم؛ ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفًا ألا يواجهوها!.. إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه! وكلما سلكوا طريقًا يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى.
ليواجهوا الله سبحانه في نهايتها كذلك!
إنهم مساكين! بائسون! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب.. فروا {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرن.. دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم. أم انقطعت منها- كما انقطعت منهم- الأنفاس.
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضًا.. فإلى أين الفرار؟..
يقول فرانك أللن العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة:
إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورًا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية. فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة. ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير (يزيد على 500 ميل).
ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يوميًا إلينا، منقضة بسرعة ثلاثين ميلًا في الثانية. والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها. والمطر مصدر الماء العذب، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة.
إن الأدلة العلمية تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزًا كاملًا عن تعليل نشأة الحياة، بما يلزم لهذه النشأة- وللنمو والبقاء والتنوع بعدها- من موافقات لا تحصى في تصميم الكون.. منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق، ووراءها من نوعها كثير. فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم. الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا..
{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}..
تتمة لمشهد الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه. تتمة لعرض المشهد الكوني الهائل الرائع مرتبطًا بحياة البشر ومصالحهم واهتماماتهم:
{لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}..
ومتاهات البر والبحر ظلمات يهتدي فيها البشر بالنجوم.. كانوا كذلك وما يزالون.
تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة.. وتبقى القاعدة ثابتة: قاعدة الاهتداء بهذه الأجرام في ظلمات البر والبحر.. سواء في ذلك الظلمات الحسية أو ظلمات التصور والفكر. ويبقى النص القرآني الجامع يخاطب البشرية في مدارجها الأولى بهذه الحقيقة، فتجد مصداقها في واقع حياتها الذي تزاوله. ويخاطبها بها وقد فتح عليها ما أراد أن يفتح من الأسرار في الأنفس والآفاق. فتجدها كذلك مصداق قوله في واقع حياتها الذي تزاوله..
وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية، لا في صورة نظرية ولكن في صورة واقعية. صورة تتجلى من ورائها يد المبدع، وتقديره، ورحمته، وتدبيره. صورة مؤثرة في العقل والقلب، موحية للبصيرة والوعي، دافعة إلى التدبر والتذكر، وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة.. لذلك يعقب على آية النجوم التي جعلها الله للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر هذا التعقيب الموحي: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}..
فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها.. كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم.. فالاهتداء- كما قلنا- هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية، وفي ظلمات العقل والضمير.. والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي، ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها، هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى؛ وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه، وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم..
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}..
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة.. اللمسة في ذات النفس البشرية. النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنه والحقيقة في الذكر والأنثى. تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة. فنفسٌ هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى.. ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار. فإذا أجناس وألوان؛ وإذا شيات ولغات؛ وإذا شعوب وقبائل؛ وإذا النماذج التي لا تحصى، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة.
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}..
فالفقه هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة، التي تنبثق منها النماذج والأنماط. ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائمًا من الذكور والإناث- في عالم الإنسان- لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار. ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ إنسانيتهم وتجعلهم أكفاء للحياة الإنسانية!
ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات- فهي في حاجة إلى بحث متخصص- ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكرًا أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الإنات دائمًا لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها.
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكرًا أو أنثى، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله. لا سلطان لأحد عليه إلا الله..
هذا القدَر الذي يجريه الله في كل مرة، فيهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثًا، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكورًا. فلا يقع اختلال- على مستوى البشرية كلها- في هذا التوازن. الذي عن طريقه يتم الإخصاب والإكثار، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته.. ذلك أن الإخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور.. ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى؛ إنما الغاية- التي تميز الإنسان من الحيوان- هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى.. لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به. وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها الإنساني الخاص- فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان- والدور الإنساني الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جدًا مما تحتاج إليه طفولة الحيوان!
وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره.. ولكن لقوم يفقهون:
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}..
أما المطموسون المحجوبون.. وفي أولهم أصحاب العلمية الذين يسخرون من الغيبية. فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الأرض. تراها الأعين، وتستجليها الحواس، وتتدبرها القلوب. وترى فيها بدائع صنع الله.. والسياق يعرضها- كما هي في صفحة الكون- ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها، وشتى أشكالها، وشتى أنواعها؛ ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية، ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة؛ كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}..